الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ، وَمَا أَبْلَوْا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَتَأَسَّ بِهِمْ، وَاسْلُكْ مِنْهَاجَهُمْ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا نَالَكَ فِي اللَّهِ، وَالنَّفَاذِ لِبَلَاغِ رِسَالَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ مِنْ أَخْبَارِ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا مَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَالْكِفْلُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْحَظُّ وَالْجَدُّ. وَقَوْلُهُ (هَذَا ذِكْرُ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ، ذَكَّرْنَاكَ وَإِيَّاهُمْ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (هَذَا ذِكْرُ) قَالَ: الْقُرْآنُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} يَقُولُ: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ فَخَافُوهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ، لَحُسْنُ مَرْجِعٍ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ، وَمَصِيرٌ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ ذَلِكَ الَّذِي وَعَدَهُ مِنْ حُسْنِ الْمَآبِ مَا هُوَ، فَقَالَ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} قَالَ: لَحُسْنَ مُنْقَلِبٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ}. قَوْلُهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (جَنَّاتِ عَدْنٍ): بَيَانٌ عَنْ حُسْنِ الْمَآبِ، وَتَرْجَمَةٌ عَنْهُ، وَمَعْنَاهُ: بَسَاتِينُ إِقَامَةٍ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ بِشَوَاهِدِهِ، وَذَكَرْنَا مَا فِيهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ (جَنَّاتِ عَدْنٍ) قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ كَعْبًا مَا عَدَنُ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قُصُورٌ فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ يَسْكُنُهَا النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ. وَقَوْلُهُ {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} يَعْنِي: مُفَتَّحَةٌ لَهُمْ أَبْوَابُهَا، وَأُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْأَبْوَابِ بَدَلًا مِنَ الْإِضَافَةِ، كَمَا قِيلَ: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} بِمَعْنَى: هِيَ مَأْوَاهُ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: مَا وَلَدَتْكُمْ حَيَّةُ ابْنَةُ مَالِكٍ *** سِفَاحًا وَمَا كَانَتْ أَحَادِيثَ كَاذِبِ وَلَكِنْ نَرَى أَقْدَامَنَا فِي نِعَالِكُمْ *** وَآنُفَنَا بَيْنَ اللِّحَى وَالْحَوَاجِبِ بِمَعْنَى: بَيْنَ لِحَاكُمْ وَحَوَاجِبِكُمْ، وَلَوْ كَانَتِ الْأَبْوَابُ جَاءَتْ بِالنَّصْبِ لَمْ يَكُنْ لَحْنًا، وَكَانَ نَصْبُهُ عَلَى تَوْجِيهِ الْمُفَتَّحَةِ فِي اللَّفْظِ إِلَى جَنَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْنَى لِلْأَبْوَابِ، وَكَانَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: وَمَا قَوْمِي بِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ *** وَلَا بِفَزَارَةَ الشِّعْرَ الرِّقَابَا ثُمَّ نُوِّنَتْ مُفَتَّحَةٌ، وَنُصِبَتِ الْأَبْوَابُ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا فِي قَوْلِهِ {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} مِنْ فَائِدَةِ خَبَرٍ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ؟ قِيلَ: فَإِنَّ الْفَائِدَةَ فِي ذَلِكَ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ أَبْوَابَهَا تُفْتَحُ لَهُمْ بِغَيْرِ فَتْحِ سُكَّانِهَا إِيَّاهَا، بِمُعَانَاةٍ بِيَدٍ وَلَا جَارِحَةٍ، وَلَكِنْ بِالْأَمْرِ فِيمَا ذُكِرَ. كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الرَّمْلِيُّ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ نُفَيْلٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ دُعَيْجٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ {مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} قَالَ: أَبْوَابٌ تَكَلَّمُ، فَتَكَلَّمُ: انْفَتِحِي، انْغَلِقِي. وَقَوْلُهُ {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} يَقُولُ: مُتَّكِئِينَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، عَلَى سُرُرٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ، يَعْنِي بِثِمَارٍ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ كَثِيرَةٍ، وَشَرَابٍ مِنْ شَرَابِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}. {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ إِسْكَانِهِمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} يَعْنِي: نِسَاءٌ قُصِرَتْ أَطْرَافُهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ، وَلَا يَمْدُدْنَ أَعْيُنَهُنَّ إِلَى سِوَاهُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} قَالَ: قَصَرْنَ طَرَفَهُمْ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، فَلَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ) قَالَ: قَصَرْنَ أَبْصَارَهُنَّ وَقُلُوبَهُنَّ وَأَسْمَاعَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَلَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ. وَقَوْلُهُ (أَتْرَابٌ) يَعْنِي: أَسْنَانٌ وَاحِدَةٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} قَالَ: أَمْثَالٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (أَتْرَابٌ) سِنٌّ وَاحِدَةٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (أَتْرَابٌ) قَالَ: مُسْتَوَيَاتٌ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مُتَوَاخِيَاتٌ لَا يَتَبَاغَضْنَ، وَلَا يَتَعَادَيْنَ، وَلَا يَتَغَايَرْنَ، وَلَا يَتَحَاسَدْنَ. وَقَوْلُهُ {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي يَعُدُّكُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مِنَ الْكَرَامَةِ لِمَنْ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ مِنْكُمْ فِي الْآخِرَةِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} قَالَ: هُوَ فِي الدُّنْيَا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُهُ {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ مِنَ الْفَاكِهَةِ الْكَثِيرَةِ وَالشَّرَابِ، وَالْقَاصِرَاتِ الطَّرَفِ، وَمَكَّنَّاهُمْ فِيهَا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى اللَّذَّاتِ وَمَا اشْتَهَتْهُ فِيهَا أَنْفُسُهُمْ لَرِزْقُنَا، رَزَقْنَاهُمْ فِيهَا كَرَامَةً مِنَّا لَهُمْ (مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ) يَقُولُ: لَيْسَ لَهُ عَنْهُمُ انْقِطَاعٌ وَلَا لَهُ فَنَاءٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كُلَّمَا أَخَذُوا ثَمَرَةً مِنْ ثِمَارِ شَجَرَةٍ مِنْ أَشْجَارِهَا، فَأَكَلُوهَا، عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى مِثْلُهَا، فَذَلِكَ لَهُمْ دَائِمٌ أَبَدًا، لَا يَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ مَا كَانَ أَهْلُ الدُّنْيَا أُوتُوهُ فَى الدُّنْيَا، فَانْقَطَعَ بِالْفَنَاءِ، وَنَفِدَ بِالْإِنْفَادِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} قَالَ: رِزْقُ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا أُخِذَ مِنْهُ شَيْءٌ عَادَ مِثْلُهُ مَكَانَهُ، وَرِزْقُ الدُّنْيَا لَهُ نَفَادٌ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ): أَيْ مَا لَهُ انْقِطَاعٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ (هَذَا): الَّذِي وَصَفْتُ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ: ثُمَّ اسْتَأْنَفَ جَلَّ وَعَزَّ الْخَبَرَ عَنِ الْكَافِرِينَ بِهِ الَّذِينَ طَغَوْا عَلَيْهِ وَبَغَوْا، فَقَالَ: (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) وَهُمُ الَّذِينَ تَمَرَّدُوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَعَصَوَا أَمْرَهُ مَعَ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ (لَشَرَّ مَآبٍ) يَقُولُ: لَشَرَّ مَرْجِعٍ وَمَصِيرٍ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} قَالَ: لَشَرَّ مُنْقَلَبٍ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا ذَلِكَ الَّذِي إِلَيْهِ يَنْقَلِبُونَ وَيَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ، فَقَالَ: (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا) فَتَرْجَمَ عَنْ جَهَنَّمَ بِقَوْلِهِ (لَشَرَّ مَآبٍ) وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ لِلْكَافِرِينَ لَشَرَّ مَصِيرٍ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ مَصِيرَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ، وَإِلَيْهَا مُنْقَلَبِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ (فَبِئْسَ الْمِهَادُ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَبِئْسَ الْفِرَاشُ الَّذِي افْتَرَشُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ جَهَنَّمُ. وَقَوْلُهُ {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا حَمِيمٌ، وَهُوَ الَّذِي قَدْ أُغْلِيَ حَتَّى انْتَهَى حَرُّهُ، وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ، فَالْحَمِيمُ مَرْفُوعٌ بِهَذَا، وَقَوْلُهُ (فَلْيَذُوقُوهُ) مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا ذَكَرْتُ، وَهُوَ: هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ. وَقَدْ يَتَّجِهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ هَذَا مُكْتَفِيًا بِقَوْلِهِ فَلْيَذُوقُوهُ ثُمَّ يُبْتَدَأُ فَيُقَالُ: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، بِمَعْنَى: مِنْهُ حَمِيمٌ وَمِنْهُ غَسَّاقٌ. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: حَتَّى إِذَا أَضَاءَ الصُّبْحُ فِي غَلَسٍ *** وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودٌ وَإِذَا وُجِّهَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى جَازَ فِي هَذَا النَّصْبُ وَالرَّفْعُ. النَّصْبُ: عَلَى أَنْ يُضْمِرَ قَبْلَهَا لَهَا نَاصِبٌ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: زِيادَتَنَا نُعْمَانُ لَا تَحْرِمَنَّنَا *** تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو وَالرَّفْعُ بِالْهَاءِ فِي قَوْلِهِ (فَلْيَذُوقُوهُ) كَمَا يُقَالُ: اللَّيْلَ فَبَادَرُوهُ، وَاللَّيْلُ فَبَادَرُوهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} قَالَ: الْحَمِيمُ: الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحَمِيمُ دُمُوعُ أَعْيُنِهِمْ، تُجْمَعُ فِي حِيَاضِ النَّارِ فَيَسْقُونَهُ. وَقَوْلُهُ (وَغَسَّاقٌ) اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ وَالشَّامِ بِالتَّخْفِيفِ: "وَغَسَاقٌ" وَقَالُوا: هُوَ اسْمٌ مَوْضُوعٌ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (وَغَسَّاقٌ) مُشَدَّدَةٌ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَسَقَ يَغْسِقُ غُسُوقًا: إِذَا سَالَ، وَقَالُوا: إِنَّمَا مَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ الْحَمِيمَ، وَمَا يَسِيلُ مِنْ صَدِيدِهِمْ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عُلَمَاءٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَإِنْ كَانَ التَّشْدِيدُ فِي السِّينِ أَتَمَّ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ غَيْرَ مَدْفُوعَةٍ صِحَّتُهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا يُسِيلُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِنَ الصَّدِيدِ وَالدَّمِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} قَالَ: كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ الْغَسَّاقَ: مَا يَسِيلُ مِنْ بَيْنِ جِلْدِهِ وَلَحْمِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: الْغَسَّاقُ: الَّذِي يُسِيلُ مِنْ أَعْيُنِهِمْ مِنْ دُمُوعِهِمْ، يَسْقُونَهُ مَعَ الْحَمِيمِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: الْغَسَّاقُ: مَا يَسِيلُ مِنْ سُرْمِهِمْ، وَمَا يُسْقِطُ مِنْ جُلُودِهِمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ (الْغَسَّاقُ): الصَّدِيدُ الَّذِي يَجْمَعُ مِنْ جُلُودِهِمْ مِمَّا تُصْهِرُهُمُ النَّارُ فِي حِيَاضٍ يَجْتَمِعُ فِيهَا فَيَسْقُونَهُ. حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَ: ثَنِي أَبُو قُبَيْلٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُبَيْرَةَ الزِّيَادِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ الْغَسَّاقُ؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: هُوَ الْقَيْحُ الْغَلِيظُ، لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْهُ تُهَرَاقُ فِي الْمَغْرِبِ لَأَنْتَنَتْ أَهْلَ الْمَشْرِقِ، وَلَوْ تُهَرَاقُ فِي الْمَشْرِقِ لَأَنْتَنَتْ أَهْلَ الْمَغْرِبِ. قَالَ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ أَبِي: ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ مَرَّةً أُخْرَى، فَقَالَ: ثَنَا أَبُو قُبَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَنَا أَبَا هُبَيْرَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْفٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةَ، قَالَ: ثَنَا صَفْوَانُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو يَحْيَى عَطِيَّةُ الْكَلَاعِيُّ، أَنَّ كَعْبًا كَانَ يَقُولُ: هَلْ تَدْرُونَ مَا غَسَّاقٌ؟ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: عَيْنٌ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ إِلَيْهَا حُمَّةُ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ مِنْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَيَسْتَنْقِعُ فَيُؤْتَى بِالْآدَمِيِّ، فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً وَاحِدَةً، فَيَخْرُجُ وَقَدْ سَقَطَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ عَنِ الْعِظَامِ. حَتَّى يَتَعَلَّقَ جِلْدُهُ فِي كَعْبَيْهِ وَعَقِبَيْهِ، وَيَنْجَرَّ لَحْمُهُ كَجَرِّ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْبَارِدُ الَّذِي لَا يُسْتَطَاعُ مِنْ بَرْدِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (وَغَسَّاقٌ) قَالَ: بَارِدٌ لَا يُسْتَطَاعُ، أَوْ قَالَ: بِرْدٌ لَا يُسْتَطَاعُ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} قَالَ: يُقَالُ: الْغَسَّاقُ: أَبْرَدُ الْبَرْدِ، وَيَقُولُ آخَرُونَ: لَا بَلْ هُوَ أَنْتَنُ النَّتَنِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ الْمُنْتِنُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النُّكْرِيِّ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: الْغَسَّاقُ: الْمُنْتِنُ، وَهُوَ بِالطُّخَارِيَّةِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَدْرِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهَرَاقُ فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيَا» ". وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: هُوَ مَا يُسِيلُ مِنْ صَدِيدِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ مَعْنَى الْغُسُوقِ، وَإِنْ كَانَ لِلْآخَرِ وَجْهٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} عَلَى التَّوْحِيدِ، بِمَعْنَى: هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ، وَعَذَابٌ آخَرُ مِنْ نَحْوِ الْحَمِيمِ أَلْوَانٌ وَأَنْوَاعٌ، كَمَا يُقَالُ: لَكَ عَذَابٌ مِنْ فُلَانٍ: ضُرُوبٌ وَأَنْوَاعٌ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْأَزْوَاجِ الْخَبَرُ عَنِ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ، وَآخِرُ مِنْ شَكْلِهِ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ، فَقِيلَ أَزْوَاجٌ، يُرَادُ أَنْ يَنْعِتَ بِالْأَزْوَاجِ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ الثَّلَاثَةَ. وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَبَعْضُ الْبَصْرِيِّينَ: "وَأُخَرُ" عَلَى الْجِمَاعِ، وَكَأَنَّ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ الْأَزْوَاجُ وَهِيَ جَمْعٌ نَعْتًا لَوَاحِدٍ، فَلِذَلِكَ جَمَعَ أُخَرَ، لِتُكُونَ الْأَزْوَاجُ نَعْتًا لَهَا، وَالْعَرَبُ لَا تَمْنَعُ أَنْ يُنْعَتَ الِاسْمُ إِذَا كَانَ فِعْلًا بِالْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ وَالِاثْنَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا، فَتَقُولُ: عَذَابُ فُلَانٍ أَنْوَاعٌ، وَنَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ. وَأَعْجَبُ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا: (وَآخَرُ) عَلَى التَّوْحِيدِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُخْرَى صَحِيحَةً لِاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِهَا فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا التَّوْحِيدَ لِأَنَّهُ أَصَحُّ مَخْرَجًا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّهُ فِي التَّفْسِيرِ بِمَعْنَى التَّوْحِيدِ. وَقِيلَ إِنَّهُ الزَّمْهَرِيرُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} قَالَ الزَّمْهَرِيرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَمَّنْ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِمِثْلِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عَذَابُ الزَّمْهَرِيرِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ. حُدِّثْتُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَّةَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ الْعَذَابَ، فَذَكَرَ السَّلَاسِلَ وَالْأَغْلَالَ، وَمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} قَالَ: وَآخَرُ لَمْ يُرَ فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ (مِنْ شَكْلِهِ) فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مِنْ ضَرْبِهِ، وَنَحْوِهِ يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: مَا أَنْتَ مِنْ شَكْلِي، بِمَعْنَى: مَا أَنْتَ مِنْ ضَرْبِي بِفَتْحِ الشِّينِ. وَأَمَّا الشِّكْلُ فَإِنَّهُ مِنَ الْمَرْأَةِ مَا عَلَّقَتْ مِمَّا تَتَحَسَّنُ بِهِ، وَهُوَ الدَّلُّ أَيْضًا مِنْهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} يَقُولُ: مِنْ نَحْوِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} مِنْ نَحْوِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} قَالَ: مِنْ كُلِّ شَكْلِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ، أَزْوَاجٌ لَمْ يُسَمِّهَا اللَّهُ، قَالَ: وَالشَّكْلُ: الشَّبِيهُ. وَقَوْلُهُ (أَزْوَاجٌ) يَعْنِي: أَلْوَانًا وَأَنْوَاعًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} قَالَ: أَلْوَانٌ مِنَ الْعَذَابِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (أَزْوَاجٌ) زَوْجٌ زَوْجٌ مِنَ الْعَذَابِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (أَزْوَاجٌ) قَالَ: أَزْوَاجٌ مِنَ الْعَذَابِ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ (هَذَا فَوْجٌ) هَذَا فِرْقَةٌ وَجَمَاعَةٌ مُقْتَحِمَةٌ مَعَكُمْ أَيُّهَا الطَّاغُونَ النَّارَ، وَذَلِكَ دُخُولُ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ بَعْدَ أُمَّةٍ، {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ عَنْ قِيلِ الطَّاغِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَدْ دَخَلُوا النَّارَ قَبْلَ هَذَا الْفَوْجِ الْمُقْتَحِمِ لِلْفَوْجِ الْمُقْتَحِمِ فِيهَا عَلَيْهِمْ، لَا مَرْحَبًا بِهِمْ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ اتَّصَلَ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَوْلٌ وَاحِدٌ، كَمَا قِيلَ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} فَاتَّصَلَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ بِقَوْلِ مَلْئِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ أَهْلِ النَّارِ: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا}. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِمْ: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} لَا اتَّسَعَتْ بِهِمْ مَدَاخِلُهُمْ، كَمَا قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ: لَا مَرْحَبَ وَادِيكَ غَيْرُ مُضَيَّقِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فَى ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} فِي النَّارِ {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ}.. حَتَّى بَلَغَ: (فَبِئْسَ الْقَرَارُ) قَالَ: هَؤُلَاءِ التِّبَاعُ يَقُولُونَ لِلرُّءُوسِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} قَالَ: الْفَوْجُ: الْقَوْمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ فَوْجًا بَعْدَ فَوْجٍ، وَقَرَأَ: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا. وَقَوْلُهُ {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} يَقُولُ: إِنَّهُمْ وَارِدُو النَّارِ وَدَاخِلُوهَا. {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} يَقُولُ: قَالَ الْفَوْجُ الْوَارِدُونَ جَهَنَّمَ عَلَى الطَّاغِينَ الَّذِينَ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُمْ لَهُمْ: بَلْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ: أَيْ لَا اتَّسَعَتْ بِكُمْ أَمَاكِنُكُمْ، (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا) يَعْنُونَ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمْ لَنَا سُكْنَى هَذَا الْمَكَانِ، وَصِلِيِّ النَّارِ بِإِضْلَالِكُمْ إِيَّانَا، وَدُعَائِكُمْ لَنَا إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ، حَتَّى ضَلَلْنَا بِاتِّبَاعِكُمْ، فَاسْتَوْجَبْنَا سُكْنَى جَهَنَّمَ الْيَوْمَ، فَذَلِكَ تَقْدِيمُهُمْ لَهُمْ مَا قَدَّمُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ (فَبِئْسَ الْقَرَارُ) يَقُولُ: فَبِئْسَ الْمَكَانُ يُسْتَقَرُّ فِيهِ جَهَنَّمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ}. وَهَذَا أَيْضًا قَوْلُ الْفَوْجِ الْمُقْتَحِمِ عَلَى الطَّاغِينَ، وَهُمْ كَانُوا أَتْبَاعَ الطَّاغِينَ فِي الدُّنْيَا، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَقَالَ الْأَتْبَاعُ: {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} يَعْنُونَ: مَنْ قَدَّمَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِدُعَائِهِمْ إِلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُوجِبُ لَهُمُ النَّارَ الَّتِي وَرَدُوهَا، وَسُكْنَى الْمَنْزِلِ الَّذِي سَكَنُوهُ مِنْهَا. وَيَعْنُونَ بِقَوْلِهِمْ (هَذَا): الْعَذَابُ الَّذِي وَرَدْنَاهُ {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} يَقُولُونَ: فَأَضْعِفْ لَهُ الْعَذَابَ فِي النَّارِ عَلَى الْعَذَابِ الَّذِي هُوَ فِيهِ فِيهَا، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ دُعَاءِ الْأَتْبَاعِ لِلْمَتْبُوعِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ الطَّاغُونَ الَّذِينَ وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ صِفَتَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُمْ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو جَهْلٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَذَوُوهُمَا: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا} يَقُولُ: مَا بَالُنَا لَا نَرَى مَعَنَا فِي النَّارِ رِجَالًا {كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} يَقُولُ: كُنَّا نَعُدُّهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَشْرَارِنَا، وَعَنَوْا بِذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ صُهَيْبًا وَخَبَّابًا وَبِلَالًا وَسَلْمَانَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} قَالَ: ذَاكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ، وَذَكَرَ أُنَاسًا صُهَيْبًا وَعَمَّارًا وَخِبَابًا، كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ فِي الدُّنْيَا. حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا يَذْكُرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} قَالَ: قَالُوا: أَيْنَ سَلْمَانُ؟ أَيْنَ خَبَّابٌ؟ أَيْنَ بِلَالٌ؟. وَقَوْلُهُ {أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (أَتَّخَذْنَاهُمْ) بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ أَتَّخَذْنَاهُمْ، وَقَطْعِهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَبَعْضُ قُرَّاءِ مَكَّةَ بِوَصْلِ الْأَلِفِ مِنَ الْأَشْرَارِ: "اتَّخَذْنَاهُمْ". وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ، أَنَّ كُلَّ اسْتِفْهَامٍ كَانَ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالتَّوْبِيخِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ تَسْتَفْهِمُ فِيهِ أَحْيَانًا، وَتُخْرِجُهُ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ أَحْيَانًا. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بِالْوَصْلِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ، لِتَقَدُّمِ الِاسْتِفْهَامِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا} فَيَصِيرُ قَوْلُهُ: "اتَّخَذْنَاهُمْ" بِالْخَبَرِ أَوْلَى وَإِنْ كَانَ لِلِاسْتِفْهَامِ وَجْهٌ مَفْهُومٌ لِمَا وَصَفْتُ قَبْلُ مِنْ أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ. وَإِذْ كَانَ الصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ مَا اخْتَرْنَا لِمَا وَصَفْنَا، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَقَالَ الطَّاغُونَ: مَا لَنَا لَا نَرَى سَلْمَانَ وَبِلَالًا وَخَبَّابًا الَّذِينَ كُنَّا نَعُدُّهُمْ فِي الدُّنْيَا أَشْرَارًا، أَتَّخَذْنَاهُمْ فِيهَا سُخْرِيًّا نَهْزَأُ بِهِمْ فِيهَا مَعَنَا الْيَوْمَ فِي النَّارِ؟. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: مَنْ كَسَرَ السِّينَ مِنَ السُّخْرِيِّ، فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِهِ الْهُزْءَ، يُرِيدُ يُسَخِّرُ بِهِ، وَمَنْ ضَمَّهَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ مِنَ السُّخْرَةِ، يَسْتَسْخِرُونَهُمْ: يَسْتَذِلُّونَهُمْ، أَزَاغَتْ عَنْهُمْ أَبْصَارُنَا وَهُمْ مَعَنَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} يَقُولُ: أَهُمْ فِي النَّارِ لَا نَعْرِفُ مَكَانَهُمْ؟. حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيَّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} قَالَ: هُمْ قَوْمٌ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ إِلَى الْجَنَّةِ وَذَهَبَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ فَ {قَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} يَقُولُونَ: أَزَاغَتْ أَبْصَارُنَا عَنْهُمْ فَلَا نَدْرِي أَيْنَ هُمْ؟. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} قَالَ: أَخْطَأْنَاهُمْ {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} وَلَا نَرَاهُمْ؟. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ} قَالَ: فَقَدُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ {أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} فِي الدُّنْيَا {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} وَهَمْ مَعَنَا فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ تَرَاجُعِ أَهْلِ النَّارِ، وَلَعْنِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَدُعَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي النَّارِ لَحَقٌّ يَقِينٌ، فَلَا تَشُكُّوا فِي ذَلِكَ، وَلَكِنِ اسْتَيْقَنُوهُ تَخَاصُمَ أَهْلِ النَّارِ. وَقَوْلُهُ (تَخَاصُمُ) رَدٌّ عَلَى قَوْلِهِ (لَحَقٌّ) وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِنَّ تَخَاصُمَ أَهْلِ النَّارِ الَّذِي أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ لَحَقٌّ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُوَجِّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} إِلَى: بَلْ زَاغَتْ عَنْهُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} فَقَرَأَ: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَرَأَ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا}.. حَتَّى بَلَغَ: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَنَا كَمَا تَقُولُونَ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لِغَافِلِينَ، مَا كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نُبْصِرُ، قَالَ: وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ، قَالَ: هَذِهِ خُصُومَةُ أَهْلِ النَّارِ، وَقَرَأَ: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} قَالَ: وَضَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فِي الدُّنْيَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ. (إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ) لَكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، أُنْذِرُكُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَسُخْطَهُ أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ بِهِ، فَاحْذَرُوهُ وَبَادِرُوا حُلُولَهُ بِكُمْ بِالتَّوْبَةِ {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يَقُولُ: وَمَا مِنْ مَعْبُودٍ تَصْلُحُ لَهُ الْعِبَادَةُ، وَتَنْبَغِي لَهُ الرُّبُوبِيَّةُ، إِلَّا اللَّهُ الَّذِي يَدِينُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَيَعْبُدُهُ كُلُّ خَلْقٍ، الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي مُلْكِهِ شَرِيكٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ صَاحِبَةٌ، الْقَهَّارُ لِكُلِّ مَا دَوَّنَهُ بِقُدْرَتِهِ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَقُولُ: مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْخَلْقِ، يَقُولُ: فَهَذَا الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ، هُوَ الْإِلَهُ الَّذِي لَا إِلَهَ سِوَاهُ، لَا الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ. وَقَوْلُهُ (الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) يَقُولُ: الْعَزِيزُ فِي نِقْمَتِهِ مَنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ، الْمُدَّعِينَ مَعَهُ إِلَهَا غَيْرَهُ، الْغَفَّارُ لِذُنُوبِ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ كُفْرِهِ وَمَعَاصِيهِ، فَأَنَابَ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَالطَّاعَةِ لَهُ بِالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ الْمُكَذِّبِيكَ فِيمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ، الْقَائِلِينَ لَكَ فِيهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) يَقُولُ: هَذَا الْقُرْآنُ خَبَرٌ عَظِيمٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ وَاصِلٍ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ شِبْلِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} قَالَ: الْقُرْآنُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: أَتَقْضِي عَلَيَّ بِالنَّبَأِ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ: أَوْ لَيْسَ الْقُرْآنُ نَبَأً؟ قَالَ: وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} قَالَ: وَقَضَى عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} قَالَ: الْقُرْآنُ. وَقَوْلُهُ {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} يَقُولُ: أَنْتُمْ عَنْهُ مُنْصَرِفُونَ لَا تَعْمَلُونَ بِهِ، وَلَا تُصَدِّقُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ حُجَجِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ. وَقَوْلُهُ {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} فِي شَأْنِ آدَمَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُوحِيَ إِلَيَّ رَبِّي فَيُعْلِمَنِي ذَلِكَ، يَقُولُ: فَفِي إِخْبَارِي لَكُمْ عَنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ وَتَنْزِيلٌ مِنْ عِنْدِهِ، لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ عِلْمَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي قَبْلَ نُزُولِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَلَا هُوَ مِمَّا شَاهَدْتُهُ فَعَايَنْتُهُ، وَلَكِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ اللَّهِ إِيَّايَ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} قَالَ: الْمَلَأُ الْأَعْلَى: الْمَلَائِكَةُ حِينَ شُووِرُوا فِي خَلْقِ آدَمَ، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ، وَقَالُوا: لَا تَجْعَلْ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} هُوَ: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} قَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ، كَانَتْ خُصُومَتُهُمْ فِي شَأْنِ آدَمَ حِينَ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ}... حَتَّى بَلَغَ (سَاجِدِينَ) وَحِينَ قَالَ: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}... حَتَّى بَلَغَ {وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} فَفِي هَذَا اخْتَصَمَ الْمَلَأُ الْأَعْلَى. وَقَوْلُهُ {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ: مَا يُوحِي اللَّهُ إِلَيَّ عِلْمَ مَا لَا عِلْمَ لِي بِهِ، مِنْ نَحْوِ الْعِلْمِ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى وَاخْتِصَامِهِمْ فِي أَمْرِ آدَمَ إِذْ أَرَادَ خَلْقَهُ، إِلَّا لِأَنِّي إِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، "فَإِنَّمَا" عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ كَانَ يَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحَرْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا بُدَّ لَهُ مَنْ حَرْفٍ خَافِضٍ، فَسَوَاءٌ إِسْقَاطُ خَافِضِهِ مِنْهُ وَإِثْبَاتُهُ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ رَأَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُنْصَبُ إِذَا أُسْقِطَ مِنْهُ الْخَافِضُ، فَإِنَّهُ عَلَى مَذْهَبِهِ نَصَبَ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ يَتَّجِهُ لِهَذَا الْكَلَامِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: مَا يُوحِي اللَّهُ إِلَّا إِنْذَارَكُمْ. وَإِذَا وُجِّهَ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، كَانَتْ"أَنَمَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ يَصِيرُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ. قَوْلُهُ {إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} يَقُولُ: إِلَّا أَنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ مُبَيِّنٌ لَكُمْ إِنْذَارَهُ إِيَّاكُمْ. وَقِيلَ: إِلَّا أَنَمَا أَنَا، وَلَمْ يَقُلْ: إِلَّا أَنَّمَا أَنَّكَ، وَالْخَبَرُ مِنْ مُحَمَّدٍ عَنِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْوَحْيَ قَوْلٌ، فَصَارَ فِي مَعْنَى الْحِكَايَةِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: أَخْبَرُونِي أَنِّي مُسِيءٌ، وَأَخْبَرُونِي أَنَّكَ مُسِيءٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: رَجُلَانِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبَرَانَا *** أَنَّا رَأَيْنَا رَجُلًا عُرْيَانَا بِمَعْنَى: أَخْبَرَانَا أَنَّهُمَا رَأَيَا، وَجَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَصْلُهُ حِكَايَةٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}. وَقَوْلُهُ (إِذْ قَالَ رَبُّكَ) مِنْ صِلَةِ قَوْلِهِ (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ حِينَ قَالَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ {لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} يَعْنِي بِذَلِكَ خَلْقَ آدَمَ. وَقَوْلُهُ {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِذَا سَوَّيْتُ خَلْقَهُ، وَعَدَلْتُ صُورَتَهُ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، قِيلَ: عُنِيَ بِذَلِكَ: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ قُدْرَتِي.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} قَالَ: مِنْ قُدْرَتِي. {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} يَقُولُ: فَاسْجُدُوا لَهُ وَخِرُّوا لَهُ سُجَّدًا. وَقَوْلُهُ {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَلَمَّا سَوَّى اللَّهُ خَلْقَ ذَلِكَ الْبَشَرِ، وَهُوَ آدَمُ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، سَجَدَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، يَعْنِي بِذَلِكَ: الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ} يَقُولُ: غَيْرُ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْجُدْ، اسْتَكْبَرَ عَنِ السُّجُودِ لَهُ تَعَظُّمًا وَتَكَبُّرًا {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} يَقُولُ: وَكَانَ بِتَعَظُّمِهِ ذَلِكَ، وَتَكَبُّرِهِ عَلَى رَبِّهِ وَمَعْصِيَتِهِ أَمْرَهُ، مِمَّنْ كَفَرَ فِي عِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ، فَجَحَدَ رُبُوبِيَّتَهُ، وَأَنْكَرَ مَا عَلَيْهِ الْإِقْرَارُ لَهُ بِهِ مِنَ الْإِذْعَانِ بِالطَّاعَةِ. كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي: {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنَ الْكَافِرِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (قَالَ) اللَّهُ لِإِبْلِيسَ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لِآدَمَ، وَخَالَفَ أَمْرَهُ: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) يَقُولُ: لِخَلْقِ يَدِيَّ، يُخْبِرُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدٌ الْمُكْتِبُ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ أَرْبَعَةً بِيَدِهِ: الْعَرْشَ، وَعَدْنَ، وَالْقَلَمَ، وَآدَمَ، ثُمَّ قَالَ لِكُلِّ شَيْءٍ كُنْ فَكَانَ. وَقَوْلُهُ (أَسْتَكْبَرْتَ) يَقُولُ لِإِبْلِيسَ: تَعَظَّمْتَ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ، فَتَرَكْتَ السُّجُودَ لَهُ اسْتِكْبَارًا عَلَيْهِ، وَلَمْ تَكُنْ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ الْعَالِينَ قَبْلَ ذَلِكَ {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} يَقُولُ: أَمْ كُنْتَ كَذَلِكَ مِنْ قَبْلُ ذَا عُلُوٍّ وَتَكَبُّرٍ عَلَى رَبِّكَ {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ إِبْلِيسُ لِرَبِّهِ: فَعَلْتَ ذَلِكَ فَلَمْ أَسْجُدْ لِلَّذِي أَمَرْتَنِي بِالسُّجُودِ لَهُ لِأَنِّي خَيْرٌ مِنْهُ وَكُنْتُ خَيْرًا لِأَنَّكَ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، وَالنَّارُ تَأْكُلُ الطِّينَ وَتَحْرُقُهُ، فَالنَّارُ خَيْرٌ مِنْهُ، يَقُولُ: لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ اسْتِكْبَارًا عَلَيْكَ، وَلَا لِأَنِّي كُنْتُ مِنَ الْعَالِينَ، وَلَكِنِّي فَعَلْتُهُ مِنْ أَجْلِ أَنِّي أَشْرَفُ مِنْهُ، وَهَذَا تَقْرِيعٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَوُا الِانْقِيَادَ لَهُ، وَاتِّبَاعَ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اسْتِكْبَارًا عَنْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِرَجُلٍ مِنْهُمْ حِينَ قَالُوا: {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} وَ {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فَقَصَّ عَلَيْهِمْ تَعَالَى قِصَّةَ إِبْلِيسَ وَإِهْلَاكِهِ بِاسْتِكْبَارِهِ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ بِدَعْوَاهُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِنْ طِينٍ، حَتَّى صَارَ شَيْطَانًا رَجِيمًا، وَحَقَّتْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ لَعْنَتُهُ، مُحَذِّرُهُمْ بِذَلِكَ أَنْ يَسْتَحِقُّوا بِاسْتِكْبَارِهِمْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَسَدًا، وَتَعَظُّمًا مِنَ اللَّعْنِ وَالسُّخْطِ مَا اسْتَحَقَّهُ إِبْلِيسُ بِتَكَبُّرِهِ عَنِ السُّجُودِ لِآدَمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِإِبْلِيسَ: (فَاخْرُجْ مِنْهَا) يَعْنِي مِنَ الْجَنَّةِ (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) يَقُولُ: فَإِنَّكَ مَرْجُومٌ بِالْقَوْمِ، مَشْتُومٌ مَلْعُونٌ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} قَالَ: وَالرَّجِيمُ: اللَّعِينُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بِمِثْلِهِ. وَقَوْلُهُ (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) يَقُولُ: وَإِنَّ لَكَ طَرْدِي مِنَ الْجَنَّةِ (إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) يَعْنِي: إِلَى يَوْمِ مُجَازَاةِ الْعِبَادِ وَمُحَاسَبَتِهِمْ {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْلِيسُ لِرَبِّهِ: رَبِّ فَإِذْ لَعَنَتْنِي، وَأَخْرَجْتَنِي مِنْ جَنَّتِكَ (فَأَنْظِرْنِي) يَقُولُ: فَأَخِّرْنِي فِي الْأَجَلِ، وَلَا تُهْلِكْنِي (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) يَقُولُ: إِلَى يَوْمِ تَبْعَثُ خَلْقَكَ مِنْ قُبُورِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ: فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَنْظَرْتُهُ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ أَجَلًا لِهَلَاكِهِ. وَقَدْ بَيَّنْتُ وَقْتَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ، وَقَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ إِبْلِيسُ: فَبِعِزَّتِكَ: أَيْ بِقُدْرَتِكَ وَسُلْطَانِكَ وَقَهْرِكَ مَا دُونَكَ مِنْ خَلْقِكَ (لِأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) يَقُولُ: لَأُضِلَّنَّ بَنِي آدَمَ أَجْمَعِينَ {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} يَقُولُ: إِلَّا مَنْ أَخْلَصْتَهُ مِنْهُمْ لِعِبَادَتِكَ، وَعَصَمْتَهُ مِنْ إِضْلَالِي، فَلَمْ تَجْعَلْ لِي عَلَيْهِ سَبِيلًا فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى إِضْلَالِهِ وَإِغْوَائِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} قَالَ: عَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ أَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ عِزَّةٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} فَقَرَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَعَامَّةُ الْكُوفِيِّينَ بِرَفْعِ الْحَقِّ الْأَوَّلِ، وَنَصْبِ الثَّانِي. وَفِي رَفْعِ الْحَقِّ الْأَوَّلِ إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا رَفْعُهُ بِضَمِيرٍ لِلَّهِ الْحَقُّ، أَوْ أَنَا الْحَقُّ وَأَقُولُ الْحَقَّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِتَأْوِيلِ قَوْلِهِ (لِأَمْلَأَنَّ) فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: فَالْحَقُّ أَنْ أَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنْكَ، كَمَا يَقُولُ: عَزْمَةٌ صَادِقَةٌ لَآتِيَنَّكَ، فَرَفَعَ عَزْمَةً بِتَأْوِيلِ لَآتِيَنَّكَ، لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ آتِيَكَ، كَمَا قَالَ: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} فَلَا بُدَّ لِقَوْلِهِ (بَدَا لَهُمْ) مِنْ مَرْفُوعٍ، وَهُوَ مُضْمَرٌ فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ بِنَصْبِ الْحَقِّ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كِلَيْهِمَا، بِمَعْنَى: حَقًّا لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ وَالْحَقَّ أَقُولُ، ثُمَّ أُدْخِلَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ، لِأَنَّ دُخُولَهُمَا إِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَامِ وَخُرُوجَهُمَا مِنْهُ سَوَاءٌ، كَمَا سَوَاءٌ قَوْلُهُمْ: حَمْدًا لِلَّهِ، وَالْحَمْدَ لِلَّهِ عِنْدَهُمْ إِذَا نَصَبَ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِغْرَاءِ بِمَعْنَى: الْزَمُوا الْحَقَّ، وَاتَّبِعُوا الْحَقَّ، وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ خِطَابٌ مِنْ اللهِ لِإِبْلِيسَ بِمَا هُوَ فَاعِلٌ بِهِ وَبِتُبَّاعِهِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قِرَأَةِ الْأَمْصَارِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، لِصِحَّةِ مَعْنَيَيْهِمَا. وَأَمَّا الْحَقُّ الثَّانِي، فَلَا اخْتِلَافَ فِي نَصْبِهِ بَيْنَ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ كُلِّهِمْ، بِمَعْنَى: وَأَقُولُ الْحَقَّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الْحَقُّ، وَالْحَقَّ أَقُولُ. وَحُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} يَقُولُ اللَّهُ: الْحَقُّ مِنِّي، وَأَقُولُ الْحَقَّ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ هَارُونَ، قَالَ: ثَنَا أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ، عَنْ طَلْحَةَ الْيَامِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَرَأَهَا (فَالْحَقُّ) بِالرَّفْعِ (وَالْحَقَّ أَقُولُ) نَصْبًا وَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ: أَنَا الْحَقُّ، وَالْحَقَّ أَقُولُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} قَالَ: قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ. وَقَوْلُهُ {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ} يَقُولُ لِإِبْلِيسَ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْ بَنِي آدَمَ أَجْمَعِينَ. وَقَوْلُهُ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ، الْقَائِلِينَ لَكَ {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}: مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى هَذَا الذَّكْرِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَجْرًا، يَعْنِي ثَوَابًا وَجَزَاءً {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} يَقُولُ: وَمَا أَنَا مِمَّنْ يَتَكَلَّفُ تَخَرُّصَهُ وَافْتِرَاءَهُ، فَتَقُولُونَ: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ} وَ {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ}. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} قَالَ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى الْقُرْآنِ أَجْرًا تُعْطُونِي شَيْئًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أَتَخَرَّصُ وَأَتَكَلَّفُ مَا لَمْ يَأْمُرْنِي اللَّهُ بِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِكَ: (إِنْ هُوَ) يَعْنِي: مَا هَذَا الْقُرْآنُ (إِلَّا ذِكْرٌ) يَقُولُ: إِلَّا تَذْكِيرٌ مِنَ اللَّهِ (لِلْعَالَمِينَ) مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، ذَكَّرَهُمْ رَبُّهُمْ إِرَادَةَ اسْتِنْقَاذِ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ مِنَ الْهَلَكَةِ. وَقَوْلُهُ {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} يَقُولُ: وَلَتَعْلَمُنَ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ مِنْ قُرَيْشٍ نَبَأَهُ، يَعْنِي: نَبَأَ هَذَا الْقُرْآنِ، وَهُوَ خَبَرُهُ، يَعْنِي حَقِيقَةَ مَا فِيهِ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بَعْدَ حِينٍ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) قَالَ: صَدَّقَ هَذَا الْحَدِيثُ نَبَّأَ مَا كَذَّبُوا بِهِ.، قِيلَ: (نَبَأَهُ) حَقِيقَةُ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْحِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: مَا هِيَ، وَمَا نِهَايَتُهَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نِهَايَتُهَا الْمَوْتُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}: أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يَابْنَ آدَمَ عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ نِهَايَتُهَا إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نِهَايَتُهَا الْقِيَامَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} قَالَ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْلَمُونَ نَبَأَ مَا كَذَّبُوا بِهِ بَعْدَ حِينٍ مِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَرَأَ: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} قَالَ: وَهَذَا أَيْضًا الْآخِرَةُ يَسْتَقِرُّ فِيهَا الْحَقُّ، وَيَبْطُلُ الْبَاطِلُ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ مِنْ غَيْرِ حَدٍّ مِنْهُ لِذَلِكَ الْحِينِ بِحَدٍّ، وَقَدْ عَلِمَ نَبَأَهُ مِنْ أَحْيَائِهِمُ الَّذِينَ عَاشُوا إِلَى ظُهُورِ حَقِيقَتِهِ، وَوُضُوحِ صِحَّتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْهُمْ مَنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ بِهَلَاكِهِ بِبَدْرٍ، وَقَبْلَ ذَلِكَ، وَلَا حَدَّ عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْحِينِ، لَا يُجَاوِزُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا قَوْلَ فِيهِ أَصَحُّ مِنْ أَنْ يُطْلَقَ كَمَا أَطْلَقَهُ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرِ ذَلِكَ عَلَى وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِينَ قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: ثَنَا أَيُّوبُ، قَالَ: قَالَ عِكْرِمَةُ: سُئِلْتُ عَنْ رَجُلٍ حَلِفَ أَنْ لَا يَصْنَعَ كَذَا وَكَذَا إِلَى حِينٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ مِنَ الْحِينِ حِينًا لَا يُدْرَكُ، وَمِنَ الْحِينِ حِينٌ يُدْرَكُ، فَالْحِينُ الَّذِي لَا يُدْرَكُ قَوْلُهُ {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} وَالْحِينُ الَّذِي يُدْرَكُ قَوْلُهُ {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وَذَلِكَ مِنْ حِينِ تُصْرَمُ النَّخْلَةُ إِلَى حِينِ تُطْلِعُ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ ص
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) الَّذِي نَزَّلْنَاهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ (مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ) فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ (الْحَكِيمِ) فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ، لَا مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا تَكُونَنَّ فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَرُفِعَ قَوْلُهُ: (تَنْزِيلُ) بِقَوْلِهِ: (مِنَ اللَّهِ) وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ. وَجَائِزٌ رَفْعُهُ بِإِضْمَارِ هَذَا، كَمَا قِيلَ: (سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا) غَيْرَ أَنَّ الرَّفْعَ فِي قَوْلِهِ: (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ) بِمَا بَعْدَهُ، أَحْسَنُ مِنْ رَفْعِ سُورَةٍ بِمَا بَعْدَهَا، لِأَنَّ تَنْزِيلَ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا فَإِنَّهُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ أَقْرَبُ، إِذْ كَانَ مُضَافًا إِلَى مَعْرِفَةٍ، فَحَسُنَ رَفْعُهُ بِمَا بَعْدَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْحَسَنِ فِي"سُورَةٍ"، لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ الْكِتَابَ، يَعْنِي بِالْكِتَابِ: الْقُرْآنَ (بِالْحَقِّ) يَعْنِي بِالْعَدْلِ، يَقُولُ: أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ يَأْمُرُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ، لِأَنَّ الدِّينَ لَهُ لَا لِلْأَوْثَانِ الَّتِي لَا تَمْلِكُ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا.، وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (الْكِتَابَ) قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي: الْقُرْآنَ. وَقَوْلُهُ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَاخْشَعْ لِلَّهِ يَا مُحَمَّدُ بِالطَّاعَةِ، وَأَخْلِصْ لَهُ الْأُلُوهَةَ، وَأَفْرِدْهُ بِالْعِبَادَةِ، وَلَا تَجْعَلْ لَهُ فِي عِبَادَتِكَ إِيَّاهُ شَرِيكًا، كَمَا فَعَلَتْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَعْقُوبُ، عَنْ حَفْصٍ، عَنْ شِمْرٍ، قَالَ: "يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفِي صَحِيفَتِهِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، فَيَقُولُ رَبُّ الْعِزَّةِ جَلَّ وَعَزَّ: صَلَّيْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، لِيُقَالَ: صَلَّى فُلَانٌ! أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لِيَ الدِّينُ الْخَالِصُ. صُمْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، لِيُقَالَ: صَامَ فُلَانٌ! أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لِيَ الدِّينُ الْخَالِصُ، تَصَدَّقْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، لِيُقَالَ: تَصَدَّقَ فُلَانٌ! أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا لِيَ الدِّينُ الْخَالِصُ، فَمَا يَزَالُ يَمْحُو شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ حَتَّى تَبْقَى صَحِيفَتُهُ مَا فِيهَا شَيْءٌ، فَيَقُولُ مَلِكَاهُ: يَا فُلَانُ، أَلِغَيْرِ اللَّهِ كُنْتَ تَعْمَلُ".
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، أَمَّا قَوْلُهُ: {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} فَالتَّوْحِيدُ، وَالدِّينُ مَنْصُوبٌ بِوُقُوعِ مُخْلِصًا عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَّا لِلَّهِ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، خَالِصَةٌ لَا شِرْكَ لِأَحَدٍ مَعَهُ فِيهَا، فَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ، لِأَنَّ كُلَّ مَا دُونَهُ مِلْكُهُ، وَعَلَى الْمَمْلُوكِ طَاعَةُ مَالِكِهِ لَا مَنْ لَا يَمْلِكُ مِنْهُ شَيْئًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ يَتَوَلَّوْنَهُمْ، وَيَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَقُولُونَ لَهُمْ: مَا نَعْبُدُكُمْ أَيُّهَا الْآلِهَةُ إِلَّا لِتُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، قُرْبَةً وَمَنْزِلَةً، وَتَشْفَعُوا لَنَا عِنْدَهُ فِي حَاجَاتِنَا، وَهِيَ فِيمَا ذُكِرَ فِي قِرَاءَةِ أَبَيٍّ: "مَا نَعْبُدُكُمْ"، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: " (قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ) وَإِنَّمَا حَسُنَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ إِذَا كَانَتْ بِالْقَوْلِ مُضْمَرًا كَانَ أَوْ ظَاهِرًا، جُعِلَ الْغَائِبُ أَحْيَانًا كَالْمُخَاطَبِ، وَيُتْرَكُ أُخْرَى كَالْغَائِبِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِيمَا مَضَى. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ". وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} قَالَ: قُرَيْشٌ تَقُولُهُ لِلْأَوْثَانِ، وَمَنْ قَبْلَهُمْ يَقُولُهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَلِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَلِعُزَيْرٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} قَالُوا: مَا نَعْبُدُ هَؤُلَاءِ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا، إِلَّا لِيَشْفَعُوا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} قَالَ: هِيَ مَنْزِلَةٌ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}. وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} يَقُولُ سُبْحَانَهُ: لَوْ شِئْتُ لَجَمَعَتْهُمْ عَلَى الْهُدَى أَجْمَعِينَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} قَالَ: قَالُوا هُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُقَرِّبُونَنَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْأَوْثَانِ، وَالزُّلْفَى: الْقُرَبُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْأَحْزَابِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا فِي الدُّنْيَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فِي الدُّنْيَا مِنْ عِبَادَتِهِمْ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِيهَا، بِأَنْ يُصْلِيَهُمْ جَمِيعًا جَهَنَّمَ، إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ الدِّينَ لِلَّهِ، فَوَحَّدَهُ، وَلَمْ يُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي) إِلَى الْحَقِّ وَدِينِهِ الْإِسْلَامِ، وَالْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، فَيُوَفِّقُهُ لَهُ (مَنْ هُوَ كَاذِبٌ) مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، يَتَقَوَّلُ عَلَيْهِ الْبَاطِلَ، وَيُضِيفُ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ مِنْ صِفَتِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ وَلَدًا افْتِرَاءً عَلَيْهِ، كَفَّارٌ لِنِعَمِهِ، جَحُودًا لِرُبُوبِيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ اتِّخَاذَ وَلَدٍ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، يَقُولُ: لَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ. وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يَقُولُ: تَنْزِيهًا لِلَّهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، وَعَمَّا أَضَافَ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ شِرْكِهِمْ (هُوَ اللَّهُ) يَقُولُ: هُوَ الَّذِي يَعْبُدُهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَبْدًا، يَقُولُ: فَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا لَهُ مِلْكٌ، فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَهُوَ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ فِي مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَالْقَهَّارُ لِخَلْقِهِ بِقُدْرَتِهِ، فَكُلُّ شَيْءٍ لَهُ مُتَذَلِّلٌ، وَمِنْ سَطْوَتِهِ خَاشِعٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّيُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَاصِفًا نَفْسَهُ بِصِفَتِهَا: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} يَقُولُ: يُغْشِي هَذَا عَلَى هَذَا، وَهَذَا عَلَى هَذَا، كَمَا قَالَ {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ:
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} يَقُولُ: يَحْمِلُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ} قَالَ: يُدَهْوِرُهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} قَالَ: يَغْشَى هَذَا هَذَا، وَيَغْشَى هَذَا هَذَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} قَالَ: يَجِيءُ بِالنَّهَارِ وَيَذْهَبُ بِاللَّيْلِ، وَيَجِيءُ بِاللَّيْلِ، وَيَذْهَبُ بِالنَّهَارِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فَى قَوْلُهُ: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} حِينَ يَذْهَبُ بِاللَّيْلِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَيْهِ، وَيَذْهَبُ بِالنَّهَارِ وَيُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لِعِبَادِهِ، لِيَعْلَمُوا بِذَلِكَ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، وَيَعْرِفُوا اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ لِمَصْلَحَةِ مَعَاشِهِمْ {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} يَقُولُ: (كُلُّ) ذَلِكَ يَعْنِي الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ (يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) يَعْنِي إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ إِلَى أَنْ تُكَوَّرَ الشَّمْسُ، وَتَنْكَدِرَ النُّجُومُ. وَقِيلَ: مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنَازِلَ، لَا تَعْدُوهُ وَلَا تَقْصُرُ دُونَهُ {أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: أَلَا إِنَّ اللَّهَ الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَأَنْعَمَ عَلَى خَلْقِهِ هَذِهِ النِّعَمَ هُوَ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَادَاهُ، الْغَفَّارُ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ التَّائِبِينَ إِلَيْهِ مِنْهَا بِعَفْوِهِ لَهُمْ عَنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَاوَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: (خَلَقَكُمْ) أَيُّهَا النَّاسُ (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) يَعْنِي مِنْ آدَمَ {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يَقُولُ: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ آدَمَ زَوْجَهُحَوَّاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فَى ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يَعْنِي آدَمَ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَاحَوَّاءَ، خَلَقَهَا مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِهِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا؟ وَإِنَّمَا خَلَقَ وَلَدَ آدَمَ مِنْ آدَمَ وَزَوْجَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ قَبْلَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا أَحَدُهَا أَنْ يُقَالَ: قِيلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ كُلَ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ أَسْكَنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْجَنَّةَ، وَخَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَحَوَّاءَمِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِه» " فَهَذَا قَوْلٌ. وَالْآخَرُ: أَنَّ الْعَرَبَ رُبَّمَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ عَنْ رَجُلٍ بِفِعْلَيْنِ، فَيَرِدُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فِي الْمَعْنَى بِثُمَّ، إِذَا كَانَ مِنْ خَبَرِ الْمُتَكَلِّمِ، كَمَا يُقَالُ: قَدْ بَلَغَنِي مَا كَانَ مِنْكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْكَ أَمْسِ أَعْجَبُ، فَذَلِكَ نَسَقٌ مِنْ خَبَرِ الْمُتَكَلِّمِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُ الزَّوْجَ مَرْدُودًا عَلَى وَاحِدِهَا، كَأَنَّهُ قِيلَ: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَحْدِهَا ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا، فَيَكُونُ فِي وَاحِدَةٍ مَعْنَى: خَلَقَهَا وَحْدَهَا، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ: أَعْدَدْتُهُ لِلْخَصْمِ ذِي التَّعَدِّي *** كَوَّحْتَهُ مِنْكَ بِدُونِ الْجَهْدِ بِمَعْنَى: الَّذِي إِذَا تَعَدَّى كَوَّحْتَهُ، وَمَعْنَى: كَوَّحْتَهُ: غَلَبْتَهُ. وَالْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْتُ أَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَحَوَّاءَ، وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقَوْلَانِ الْآخَرَانِ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. وَقَوْلُهُ: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الْإِبِلِ زَوْجَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ زَوْجَيْنِ، وَمِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ}. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ، ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} قَالَ: مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ زَوْجٌ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} يَعْنِي مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَبْتَدِئُ خَلْقَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُحْدِثُ فِيهَا نُطْفَةً، ثُمَّ يَجْعَلُهَا عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عِظَامًا، ثُمَّ يَكْسُو الْعِظَامَ لَحْمًا، ثُمَّ يُنْشِئُهُ خَلْقًا آخَرَ، تَبَارَكَ اللَّهُ وَتَعَالَى، فَذَلِكَ خَلْقُهُ إِيَّاهُ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} قَالَ: نُطْفَةٌ، ثُمَّ عَلَقَةٌ، ثُمَّ مُضْغَةٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} قَالَ: نُطْفَةٌ، ثُمَّ مَا يَتْبَعُهَا حَتَّى تَمَّ خَلْقُهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عِظَامًا، ثُمَّ لَحَمًا، ثُمَّ أَنْبَتَ الشَّعْرَ، أَطْوَارَ الْخَلْقِ. حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} قَالَ: يَعْنِي بِخَلْقٍ بَعْدَ الْخَلْقِ، عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عِظَامًا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} قَالَ: يَكُونُونَ نُطَفًا، ثُمَّ يَكُونُونَ عَلَقَا، ثُمَّ يَكُونُونَ مُضَغًا، ثُمَّ يَكُونُونَ عِظَامًا، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِمُ الرُّوحُ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} خَلْقُ نُطْفَةٍ، ثُمَّ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مُضْغَةٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ مِنْ بَعْدِ خَلْقِهِ إِيَّاكُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ، قَالُوا: فَذَلِكَ هُوَ الْخَلْقُ مِنْ بَعْدِ الْخَلْقِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} قَالَ: خَلْقًا فِي الْبُطُونِ مِنْ بَعْدِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ الَّذِي خَلَقَهُمْ فِي ظَهْرِ آدَمَ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ، وَمَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَخْلُقُنَا خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ يَخْلُقْنَا فَى بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا مِنْ بَعْدِ خَلْقِنَا فِي ظَهْرِ آدَمَ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً}... الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} يَعْنِي: فِي ظُلْمَةِ الْبَطْنِ، وَظُلْمَةِ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةِ الْمَشِيمَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} قَالَ: الظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ: الْبَطْنُ، وَالرَّحِمُ، وَالْمَشِيمَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} قَالَ: الْبَطْنُ، وَالْمَشِيمَةُ، وَالرَّحِمُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} قَالَ: يَعْنِي بِالظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ: بَطْنَ أُمِّهِ، وَالرَّحِمَ، وَالْمَشِيمَةَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} قَالَ: الْبَطْنُ، وَالرَّحِمُ وَالْمَشِيمَةُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} الْمَشِيمَةِ، وَالرَّحِمِ، وَالْبَطْنِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} قَالَ: ظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ، وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ، وَظُلْمَةُ الْبَطْنِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} قَالَ: الْمَشِيمَةُ فِي الرَّحِمِ، وَالرَّحِمُ فِي الْبَطْنِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ، فِي قَوْلِهِ: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ}: الرَّحِمُ، وَالْمَشِيمَةُ، وَالْبَطْنُ، وَالْمَشِيمَةُ الَّتِي تَكُونُ عَلَى الْوَلَدِ إِذَا خَرَجَ، وَهِيَ مِنَ الدَّوَابِّ السَّلَى. وَقَوْلُهُ: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ أَيُّهَا النَّاسُ هُوَ رَبُّكُمْ، لَا مَنْ لَا يَجْلِبُ لِنَفْسِهِ نَفَعَا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضُرًّا، وَلَا يَسُوقُ إِلَيْكُمْ خَيْرًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْكُمْ سُوءًا مِنْ أَوْثَانِكُمْ وَآلِهَتِكُمْ. وَقَوْلُهُ: (لَهُ الْمُلْكُ) يَقُولُ جَلَّ وَعَزَّ: لِرَبِّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ الَّذِي صِفَتُهُ مَا وَصَفَ لَكُمْ، وَقُدْرَتُهُ مَا بَيَّنَ لَكُمُ الْمَلِكُ، مَلِكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسُلْطَانُهُمَا لَا لِغَيْرِهِ، فَأَمَّا مُلُوكُ الدُّنْيَا فَإِنَّمَا يُمَلَّكُ أَحَدَهُمَا شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ، فَإِنَّمَا لَهُ خَاصٌّ مِنَ الْمُلْكِ. وَأَمَّا الْمُلْكُ التَّامُّ الَّذِي هُوَ الْمُلْكُ بِالْإِطْلَاقِ فَلِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. وَقَوْلُهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَعْبُودٌ سِوَاهُ، وَلَا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أَيُّهَا النَّاسُ فَتَذْهَبُونَ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّكُمْ، الَّذِي هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتُهُ، إِلَى عِبَادَةِ مَنْ لَا ضُرَّ عِنْدَهُ لَكُمْ وَلَا نَفْعَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} قَالَ: كَقَوْلِهِ: (تُؤْفَكُونَ) حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) قَالَ لِلْمُشْرِكِينَ: أَنَّى تُصْرَفُ عُقُولُكُمْ عَنْ هَذَا؟
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ لِخَاصٍّ مِنَ النَّاسِ، وَمَعْنَاهُ: إِنْ تَكْفُرُوا أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أَخْلَصَهُمْ لِعِبَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ الْكُفْرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلَيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} يَعْنِي الْكُفَّارَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، فَيَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وَهُمْ عِبَادُهُ الْمُخْلِصُونَ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} فَأَلْزَمَهُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} قَالَ: لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكْفُرُوا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ عَامٌّ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَمَعْنَاهُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ تَكْفُرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ، وَلَا يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَكْفُرُوا بِهِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: إِنْ تَكْفُرُوا بِاللَّهِ أَيُّهَا الْكَفَّارُ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ إِيمَانِكُمْ وَعِبَادَتِكُمْ إِيَّاهُ، وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ، بِمَعْنَى: وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، كَمَا يُقَالُ: لَسْتُ أُحِبُّ الظُّلْمَ، وَإِنْ أَحْبَبْتُ أَنْ يَظْلِمَ فُلَانٌ فَلَانًا فَيُعَاقَبُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} يَقُولُ: وَإِنْ تُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَتُطِيعُوهُ يَرْضَ شُكْرَكُمْ لَهُ، وَذَلِكَ هُوَ إِيمَانُهُمْ بِهِ وَطَاعَتُهُمْ إِيَّاهُ، فَكَنَّى عَنِ الشُّكْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْفِعْلَ الدَّالَّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} بِمَعْنَى: فَزَادَهُمْ قَوْلُ النَّاسِ لَهُمْ ذَلِكَ إِيمَانًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} قَالَ: إِنْ تُطِيعُوا يَرْضَهُ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يَقُولُ: لَا تَأْثَمُ آثِمَةٌ إِثْمَ آثِمَةٍ أُخْرَى غَيْرِهَا، وَلَا تُؤَاخَذُ إِلَّا بِإِثْمِ نَفْسِهَا، يُعَلِّمُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ أَنَّ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مَا جَنَتْ، وَأَنَّهَا لَا تُؤَاخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قَالَ: لَا يُؤْخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ثُمَّ بَعْدَ اجْتِرَاحِكُمْ فِي الدُّنْيَا مَا اجْتَرَحْتُمْ مِنْ صَالِحٍ وَسَيِّئٍ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ أَيُّهَا النَّاسُ، إِلَى رَبِّكُمْ مَصِيرُكُمْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِكُمْ، (فَيُنَبِّئُكُمْ) يَقُولُ: فَيُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَعْمَلُونَهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَيُجَازِيكُمْ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ جَزَاءَكُمْ، الْمُحْسِنَ مِنْكُمْ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ: فَاتَّقُوا أَنْ تَلْقُوا رَبَّكُمْ وَقَدْ عَمِلْتُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا لَا يَرْضَاهُ مِنْكُمْ فَتَهْلَكُوا، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ عَمَلُ عَامِلٍ مِنْكُمْ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا أَضْمَرَتْهُ صُدُورُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِمَّا لَا تُدْرِكُهُ أَعْيُنُكُمْ، فَكَيْفَ بِمَا أَدْرَكَتْهُ الْعُيُونُ وَرَأَتْهُ الْأَبْصَارُ. وَإِنَّمَا يَعْنِي جَلَّ وَعَزَّ بِذَلِكَ الْخَبَرَ عَنْ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مَحَّصَ عَلَى عِبَادِهِ أَعْمَالَهُمْ، لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا كَيْ يَتَّقُوهُ فِي سِرِّ أُمُورِهِمْ وَعَلَانِيَتِهَا.
|